النص مأخوذ من كتاب السائر بين العوالم: تجارب الخروج من الجسد واستكشاف الوعي
يجادل بعض المتشككين أن تجارب الخروج من الجسد مجرد شكل من أشكال الهلوسة، ويرفضون أهميتها باعتبارها أوهامًا ذاتية. ومع ذلك، فإن هذه الحجة تفشل في الاعتراف بتعقيد هذه التجارب وخصائصها المميزة التي تميزها عن الهلوسة. يستكشف هذا القسم الأسباب الكامنة وراء الاعتقاد بأن تجارب الخروج من الجسد والهلوسة مترادفان، ثم يتعمق في الاختلافات الرئيسية التي تؤكد الطبيعة الفريدة لتجارب الخروج من الجسد.
يبدو أن الهلوسة، التي تُعرف غالبًا على أنها تجارب إدراكية في غياب المحفزات الخارجية المقابلة، تشترك في أوجه تشابه سطحية مع تجارب الخروج من الجسد. إن الحجة القائلة بأن تجارب الخروج من الجسد هي نفسها الهلوسة تنبع من منظور اختزالي، يتجاهل التفاعل المعقد بين العوامل التي تساهم في هذه الظواهر. يؤكد النقاد أن كلتا التجربتين تنطويان على حالة وعي متغيرة، وبالتالي تقعان في نفس الفئة. ومع ذلك، فإن هذا التبسيط المفرط يهمل السمات المميزة التي تميز تجارب الخروج من الجسد عن الهلوسة.
فتجارب الخروج من الجسد والهلوسة ظاهرتين متميزتين لهما بعض الخصائص المتداخلة، وقد تحدث الظاهرتين في بعض الأحيان بشكل مشترك، لكنها لا ترتبط بالضرورة ببعضها البعض بعلاقة سببية[1]، كما أنّ لديهما أيضًا بعض الاختلافات الرئيسية في الآلية والطبيعة الذاتية[2].
فتجارب الخروج من الجسد (Out-of-body experience) كما ذكرنا هي تجارب يشعر الفرد بأن وعيه يقع خارج جسده المادي ويراقب البيئة من منظور مختلف.[3] أما الهلوسة (Hallucinations) فهي تصورات للتجارب الحسية التي تحدث في غياب المحفز الخارجي المقابل ويمكن أن تتضمن أيًا من الحواس، بما في ذلك البصر والصوت والذوق والشم واللمس، كما يمكن أن تبدو حقيقية للغاية على الرغم من أنها لا تستند إلى الواقع[4]، يمكن أن تحدث الهلوسة بسبب مجموعة متنوعة من العوامل، مثل الحرمان من النوم، اضطرابات الصحة العقلية وتعاطي المخدرات واضطرابات النوم وبعض الحالات الطبية[5].
وبينما يمكن أن يصاحب تجارب الخروج من الجسد مجموعة متنوعة من التجارب الحسية، مثل رؤية وسماع الأشياء غير الموجودة جسديًا، أي أحاسيس لا تستند إلى الواقع كما في الهلوسة، إلا إنها ظاهرة مميزة لأنها تتضمن أنواعًا مختلفة من الخصائص.
على سبيل المثال الغالبية من المختبرين لتجارب الخروج من الجسد خاصة خلال حالات الاقتراب من الموت يتفقون على أن هذه التجارب ليست مثل الأحلام أو الهلوسات، حيث يتم الإبلاغ عن شعورهم بالواقعية والوضوح الشديدين[6]. على سبيل المثال، يميل مرضى تحت تأثير الكيتامين (ketamine)[7] إلى التعرف على الطابع الوهمي لتجربتهم[8]. أيضاً لاحظت الدكتورة بيني سارتوري (Dr Penny Sartori) أثناء إجراء دراستها لمدة خمس سنوات حول تجارب الاقتراب من الموت أن المرضى الذي خضعوا لهلوسة في أوقات منفصلة خلال تجاربهم، تمكنوا من التمييز بين الاثنين والتعرف على طابع هلوستهم، حيث إن وقت الهلوسة لم يتناسب مع وقت تجربتهم في الاقتراب من الموت ، أيضاً كانت الهلوسات عشوائية وغريبة ولم تكن منطقية، بينما تفتقر تجارب الاقتراب من الموت من هذه الصفات وتبدو واقعية للغاية، وليست مثل الأحلام أو الهلوسات[9].
ففي الأحلام مثلاً نميل إلى التفكير في تلك التجارب بعد الاستيقاظ منها على أنها أوهام فقط، بينما لدى الأشخاص الذين يختبرون تجارب الخروج من الجسد خاصة خلال الاقتراب من الموت يكون لتلك التجارب تأثيرات دائمة على نظرة الشخص لنفسه وللوجود[10]. على سبيل المثال، عندما قام الباحثون بمراجعة الأدبيات الطبية حول تلك التجارب، تبين أن 81 في المئة من الذين مروا بتلك التجارب يعتقدون أن أرواحهم انفصلت فعلاً عن أجسادهم و82 في المائة منهم مقتنعون بأن الحياة مستمرة بعد الموت[11]. كما أفادت دراسة أخرى[12] بتقليل كبير في الخوف من الموت بين هؤلاء الأشخاص. الأحلام والهلوسات ببساطة لا تحقق هذه التأثيرات.
يجادل البعض أن تجارب الخروج من الجسد وخاصة تلك التي تحصل خلال الاقتراب من الموت تكون هلوسات ناتجة من بعض المواد الكيميائية التي يفرزها الدماغ أثناء الموت أو عند استعادة وظائفه، بغرض المساعدة في التعامل مع خوف الموت، لكن ليس هناك دليل تجريبي يشير إلى أن الدماغ يقوم بذلك. يلاحظ ديفيد نيكولز (David E. Nichols) أن الغدة الصنوبرية ستحتاج إلى إنتاج 25 ملغ من مادة دي ام تي[13] (DMT) بسرعة لإنشاء تجربة مهلوسة، وليس هناك دليل على أن الدماغ يقوم بذلك، حيث إن وزن الغدة الصنوبرية هو أقل من 0.2 جرام، وتنتج يومياً 30 ميكروجرام من الميلاتونين يومياً فقط، بالإضافة إلى ذلك من المعروف أن نشاط الدماغ ينخفض بسرعة عندما يقترب الإنسان من الموت ولا يزيد[14]. يجادل البعض الأخر أن هذه التجارب ناتجة عن تأثير الأدوية التي تمنح لبعض المرضى في الحالات الحرجة أو نتيجة تدفق الإندورفينات[15] في الدماغ. في الرد على ذلك لاحظت الدكتورة ساتوري وجود العديد من الحالات حيث يتلقى مريض الأزمة القلب علاجًا دوائيًا مهلوساً ولا يشعر بشيء، بينما هناك تبليغ عن الهلوسات الغريبة في حال تلقي تلك الأدوية، وتقول إن من بين 15 مريضًا أبلغوا عن تجربة وفاة اقتراب من الموت، لم يتم إعطاء 20 بالمئة منهم أي أدوية مخدرة. يلاحظ بأنه من بين 12 مريضًا أبلغوا عن هلوسات غريبة، تلقى 11 منهم أدوية تخدير ومسكنات. يظهر هذا بأن الأدوية تسهم بشكل كبير في الهلوسات الغريبة التي تتناقض تمامًا مع وصف تجارب الاقتراب الموت الصريحة والواضحة والمنظمة التي تم الإبلاغ عنها (بما في ذلك رؤية الأشخاص أنفسهم خارج أجسادهم). ترى ساتوري أيضًا أن الإندورفينات غير مرشحة كسبب محتمل، حيث يكون بعض المرضى لا يعانون من الألم قبل تجربتهم. والإندورفينات تُظهر آثارًا طويلة الأمد، ولكن بعض المرضى يبلغون عن وجود ألم عندما يعودون إلى أجسادهم[16].
أخيراً لا تقتصر تجارب الخروج من الجسد على أي ثقافة أو نظام معتقد محدد. وقد تم توثيقها عبر مختلف المجتمعات والأديان والفترات التاريخية[17] (كما ذكرنا سابقاً)، مما يشير إلى ظاهرة أعمق عبر الثقافات تتجاوز حدود الهلوسة. تثير هذه العالمية تساؤلات حول جدية حول اسناد هذه الظاهرة إلى التركيبات النفسية أو العصبية فقط.
وحيث إن الهلوسة تشير إلى تجارب لا تتوافق مع الواقع الموضوعي، فإن النتائج التي توصل لها علماء درسوا شهادات الخروج من الجسد (والتي ذكرنا بعضها خلال هذا الفصل) وخاصة خلال الاقتراب من الموت لا ترجع أن تكون تلك التجارب هلوسة أو تجارب وهمية لأن الذكريات تتوافق مع أحداث فعلية تم التحقق منها[18].
كاستنتاج لما سبق، فإن التأكيد على أن تجارب الخروج من الجسد هي نفسها الهلوسة هي مبالغة في تبسيط تعقيد هذه الظواهر وتميزها. في حين أن كلا التجربتين تنطويان على تغيرات في الوعي، فإن الاختلافات بينهما أعمق بكثير، إن الهلوسة وتجارب الخروج من الجسد هي ظاهرتين منفصلتين يمكن أن تحدثا بشكل منفصل أو معًا في بعض الحالات، ولكن كل ظاهرة منهما متميزة بصور وخصائص محددة تميزها عن الأخرى. فبينما الهلوسة تتضمن صور عشوائية وغريبة، فإنّ تجارب الخروج من الجسد تتضمن إدراك محدد وهو فصل الوعي عن الجسد المادي والقدرة على مراقبة البيئة من منظور خارج الجسد، وبينما لا تحمل الهلوسات أي تأثيرات على الشخص بعد التجربة، فالأمر مختلفة في تجارب الخروج من الجسد حيث تعتبر تجارب ذات تأثيرات تحويلية أو دائمة.
بالإضافة إلى ذلك يكون الشخص في تجارب الخروج من الجسد واعياً تماماً ومدركاً لما يحصل، ويستطيع تفريق حالته عن الهلوسة والأحلام، وأيضاً تأتي تجارب الخروج من الجسد في بعض الأحيان بوقائع يمكن التحقق منها لاحقاً على عكس الهلوسة. وأخيراً يمكن أن تكون تجارب الخروج من الجسد عفوية أو مستحدثة من خلال طرق مختلفة مثل التأمل، في حين لا يتم تحفيز الهلوسة عادة عن قصد، بل كنتيجة لمؤثر ما أو عرض لأحد الأمراض.
إن وجود خصائص مختلفة وتأثيرات مختلفة للظاهرتين، ووجود التصورات الحقيقية، والإجماع بين الثقافات المختلفة يتحدى بشكل جماعي الحجة الاختزالية التي تساوي تجارب الخروج من الجسد بالهلوسة. إن تجارب الخروج من الجسد ليست مجرد حيل للعقل أو تفاعلات للدماغ؛ أنها تقدم رؤى عميقة حول طبيعة الوعي والعلاقة بين العقل والجسد. إن الاعتراف بتفرد تجارب الخروج من الجسد يدفعنا إلى استكشاف طرق جديدة للبحث والفهم، مما يدفعنا إلى توسيع حدود معرفتنا بالتجربة الإنسانية.
[1] Tart, C. T. (2009). The end of materialism: How evidence of the paranormal is bringing science and spirituality together. Oakland, CA: New Harbinger Publications. [2] Olaf Blanke, Christine Mohr,Out-of-body experience, heautoscopy, and autoscopic hallucination of neurological origin: Implications for neurocognitive mechanisms of corporeal awareness and self-consciousness,Brain Research Reviews,Volume 50, Issue 1,2005,Pages 184-199,ISSN 0165-0173,https://doi.org/10.1016/j.brainresrev.2005.05.008. [3] Sellers J. A brief review of studies of out-of-body experiences in both the healthy and pathological populations. Journal of Cognitive Science. 2018;19(4):471–491. [4] Telles-Correia, D., Moreira, A. L., & Gonçalves, J. S. (2015). Hallucinations and related concepts-their conceptual background. Frontiers in psychology, 6, 991. https://doi.org/10.3389/fpsyg.2015.00991 [5] Fowler, P. (2015). Hallucinations. In webmd. Retrieved August 5, 2021, from https://www.webmd.com/schizophrenia/what-are-hallucinations [6] Khanna, S., & Greyson, B. (2014). Daily spiritual experiences before and after near-death experiences. Psychology of Religion and Spirituality, 6(4), 302-309. https://dol.org/10.1037/a0037258 [7] الكيتامين هو دواء تم تطويره في الأصل كمخدر للاستخدام الطبي والبيطري. وهو معروف بخصائصه الانفصالية، مما يعني أنه يمكن أن يخلق إحساسًا بالانفصال عن المحيط والجسد. [8] Fenwick, P. Is the Near-Death Experience Only N-Methyl-D-Aspartate Blocking?. Joumal of Near-Death Studies 16,43-53 (1997), https://dol.org/10.1023/A:1025059210388 [9] Sartori, P. (2014). Wisdom of Near-Death experiences: How Understanding NDEs Can Help Us Live More Fully. Watkins Media Limited.p136-139 [10] van Lommel, P (201 1). Near-death experiences: The experience of the self as real and not as an Illusion. Annals of the New York Academy of Sciences, 1234, 19-28. dol: 10. 1 1 1 1/. 1749-6632.201 1.06080.x [11] Kelly, E. F. (2007). Irreducible mind: Toward a Psychology for the 21st Century ; with CD Containing F.W.H. Myers’s Hard-to-find Classic Two-volume Human Personality (1903) and Selected Contemporary Reviews.p367-421 [12] Lommel, Pin Van, et al. "Near-Death Experience in Survivors of Cardiac Arrest: a Prospective Study in the Netherlands." The Lancet, vol. 358, no, 9298, 2001, pp. 2039-2045., dol:10.1016/0140-6736(01)07100-8. [13] الدي ام تي (DMT) (ثنائي ميثيل تريبتامين) هو مركب مخدر قوي يوجد بشكل طبيعي في النباتات والحيوانات، وهو معروف بإحداث تجارب هلوسة مكثفة وقصيرة الأمد. [14] No Reason to Believe the Pineal Gland Allers Consclousness by Secreting DMI, Psychedelic Researcher Says.* PsyPost, 12 Feb. 2020, www.psypost.org/2018/01/no-reason-believe-pineal-gland-alters-consciousness-secreting-dimt-psychedelic-researcher-says-50609. [15] الإندورفينات (endorphins) هي مركبات كيميائية طبيعية في الجسم تعمل كمهدئات طبيعية، تُفرز أثناء التمرين البدني أو الألم وتؤثر على المزاج والشعور بالراحة. [16] Oyama T, Jin T, Yamaya R, Ling N, Guillemin R. Profound analgesic effects of beta-endorphin in man. Lancet. 1980 Jan 19;1(8160):122-4. doi: 10.1016/s0140-6736(80)90606-6. PMID: 6101459. [17] Sheils, Dean. (1978). A cross-cultural study of beliefs in out-of-the-body experiences, waking and sleeping. Journal of the Society for Psychical Research. 49. 697-741. [18] S. Paria, et al. AWARE - AWAreness during REsuscitation - a prospective study Resuscitation, 86 (2014), pp. 1799-1805
Comments